المقدسي علاء الدين البازيان.. أسير المحبسين
القدس المحتلة - القسطل: لطالما استوحت مسيرة النضال الفلسطيني نماذج تاريخية عظيمة عكست سماتٍ مختلفة فيها، وليس من الغريب أن نستوحي في كلماتنا هذه لقب "أسير المحبسين" الذي أصبح ملاصقاً لسيرة الشاعر العربيّ الكبير أبي العلاء المعريّ في رحلته مع العمى الذي أصيب به صغيراً، وفي رحلته مع اعتزال الناس في بيته حتى توفي عام 449 هـ، فكيف بإمرئ اجتمع عليه ظلام البصر وظلمة السجّان، فأضحى أسير المحبسين المقدسي المجاهد/علاء الدين رضا البازيان (أبو كمال).
عاش الأسير المجاهد/ علاء البازيان في أزقة حارة السعدية في القدس الشريف التي عرف قدرها ومكانتها منذ حداثة سنه، فعرف أجر الرباط في المسجد الأقصى، فأدركه بأن كان من أوائل المرابطين فيه وعلى أبوابه المتعددة، ولقي في سبيل ذلك ما لقيه غير مبالٍ وقد نظر إلى القدس النظرة الملائمة لمكانتها وقدرها، فهي العاصمة العربية الإسلامية التي تلازم الكلام القرآني في سورة الإسراء، والتي لامست الأثر النبوي الشريف في رحلة الإسراء والمعراج، ولامست فتوحات المسلمين، فلم يشهد فتحها إلا أمير المؤمنين عمر، وهي الملازمة لطريق طويلٍ من الدفاع عن الإرث الإسلامي فيها حتى يومنا هذا.
وفي نهاية سبعينيات القرن الماضي، قرر الأسير المجاهد/ علاء البازيان اتخاذ خطوةٍ إلى الأمام على سبيل القدس، فقرر التدرّب على القنابل اليدوية لاستخدامها في عمليات بطولية ضد الاحتلال الغاشم الذي ينتهك حرمة المدينة المقدسة، وأثناء ذلك باغتته إحدى هذه القنابل لتنفجر أثناء حيازته لها ما أدى إلى فقدان بصره، وتسببت كذلك في إلقاء قوات الاحتلال القبض عليه لتصدر محكمة الظلم حكمها بسجنه مدة عامين، وقد حاول الأسير علاج فقدان بصره بعد الإفراج عنه إلا أن إصابته كانت بالغةً، ولم تنجح محاولات الأطباء في استرجاع بصره ولو جزئياً، فابتلي في غُرْة طريق جهاده بفقدان أبدي لحاسة البصر؛ فأضحى محبسه الأول.
ولأنّ البازيان لم يكن مجاهداً تقليدياً، بل كان استثنائياً ذا همة عالية، لم تقعده إعاقته البصرية عن طريق الجهاد، ليعود بعد ذلك إلى بيت المقدس ليقود مجموعةً جهاديةً لمقاومة الاحتلال، والتي نجحت لاحقاً بالقيام بسلسلة من العمليات الجهادية التي أفضت إلى إصابة العشرات من جنود الاحتلال، ليُعاد اعتقاله مرةً أخرى عام 1981، ويُحْكم عليه بالسجن لأكثر من عشرين عاماً، وما هي إلا سنواتٌ ويفرج عنه الاحتلال مُرْغماً بفضل الله ورحمته، في أعقاب صفقة تبادل أسرى أشرفت عليه الجبهة الشعبية –القيادة العامة (صفقة أحمد جبريل عام 1985).
وبعد إشراق شمس الحرية، لم تغب شمس الجهاد عن ذهن هذا الأسير القائد، فبادر عقب الإفراج عنه إلى تشكيل مجموعة جهادية جديدة، نفذت سلسلة من العمليات البطولية ضد قوات الاحتلال، وتمكنت أيضاً من تصفية مجموعة من العملاء، ليعود الاحتلال الصهيوني إلى اعتقاله مرةً أخرى عام 1986 وتحكم عليه محكمة الفجور بالسجن مدى الحياة، ويبدأ رحلة ممتدة من الظلام في غياهب السجون لأكثر من خمسٍ وعشرين عاماً حتى تمكنت المقاومة الفلسطينية في غزة من إطلاق سراحه للمرة الثانية من هذه السجون بعد إتمام صفقة وفاء الأحرار عام 2011، ليخرج عزيزاً كريماً ويتنسم طيب الحرية رغم أنف السجّان ويتزوج ويُرْزق بكريمتين.
ولم يمضِ من الوقت الكثير، ولأنّ ضريبة الجهاد اصطفاءٌ وابتلاءٌ، أعادت قوات الاحتلال اعتقاله بشكل تعسفي رفقة أكثر من خمسين مجاهداً فلسطينياً من محرري صفقة وفاء الأحرار ويعيد الاحتلال بكل ظلمٍ أحكامهم السابقة، وذلك بعد أسر المقاومة الفلسطينية لجنديين صهيونيين خلال حرب 2014م، ليحكم الاحتلال على الأسير البازيان ألا يحظى بحظٍ وافرٍ من كريمته الأولى، وألا يكون شاهداً على مولد كريمته الثانية، فلم يزل رهين محبس الاحتلال حتى يومنا هذا.
فاتورةٌ جهاديةٌ كبيرةٌ دفع فيها الأسير المجاهد/ علاء البازيان قدرته على الإبصار ليصبح رهين محبس الإبصار، ودفع فيها عمره في سجون الاحتلال التي مكث فيها ثلاثين عاماً أو أكثر مجتمعةً، فأضحى رهين المحبس الثاني التعسفي، دفاعاً عن القدس وفلسطين وانتصاراً لخيار المقاومة والجهاد، فمضى إلى ذلك الطريق مصرًّاً عليه بإعاقته البصرية وبعمره الذي أفناه داخل سجون الاحتلال في الوقت الذي تخلف فيه كثير من العرب عن هذا الطريق، فأبصره الأعمى وتاه عنه المبصرون، وقد صدق تعالى (فإِنَّهَا لَاْ تَعْمَى الأَبْصْارُ ولَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ التي فِيْ الصُّدُوْر) الحج [46]، وقد صدق –جل وعلا- (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) الإسراء [72].
هذه الكلمات وغيرها من اللقاءات الإذاعية والتلفزيونية تقف عاجزةً أمام ما يقدمه الأسرى من حياتهم وآجالهم وصحتهم، بل إنها ليست كافيةً لتعفينا من مسؤولية العمل الوطني تجاه قضيتهم، ولا بد من خطةٍ وطنيةٍ تعمل عليها الحكومة الفلسطينية والفصائل تأخذ بعين الاعتبار العمل على تحريرهم من الأسر، فلا يُعْقل أن يقبع أسرانا في سجون الاحتلال عقوداً من السنين، بل إن المأمول اعتماد الأفكار الرامية إلى تشكيل رأي عام وطني يليق بتضحيات الأسرى في سجون الاحتلال.
. . .